تناول الدكتور سليمان العسكري في محاضرته "أزمة التعبيرات الملتبسة ومفاهيمها الغامضة عند العرب في طرح الشعارات لمراحل التطور المنشود منذ الخروج من نير الاستعمار الخارجي". وعزا طبيعة الوضع الحالي إلى الأزمة الروحية والثقافية التي يعاني منها العرب منذ أمد طويل وبالتحديد منذ بداية الصدام مع الاستعمار الغربي واعتبر أن العرب يدركون منذ ذلك الوقت أنهم يعانون حالة مزمنة من التخلّف وأنه لا سبيل لإنقاذهم من أزمتهم الروحية والثقافية إلاّ بمواجهة هذا التخلّف والانتصار عليه فكريا وماديا. وأوضح أن العرب اختاروا لهذه المواجهة تعابير كثيرة "كانت أشبه بالأقنعة المتعددة كلما خلعنا قناعا بدا تحته آخر". كما استعرض المفكر الكويتي مختلف المراحل والتطورات والأحداث التي أدت إلى سقوط تلك الأقنعة والتعابير الملتبسة التي لم تكن تعكس الواقع العربي بداية بتعبير "النهضة العربية" الذي انكشف وتبدد عقب رحيل الاستعمار الخارجي قبل أن يحل محله شعار "التنمية العربية" الذي انتهى هو الآخر في الستينات بأكبر هزيمة عسكرية ومعنوية وتقنية وفكرية أمام الغرب وتحديدا على يد إسرائيل. وأضاف في محاضرته التي تلاها نقاش عميق بين المشاركين والحاضرين في الندوة أن موت تعبير "التنمية العربية" خلفه شعار "تحديث الدولة العربية" التي تحوّلت مع مرور الوقت إلى مؤسسات قبلية مختبئة ومترصدة تحت أعلام ملوّنة وشعارات "الأنا" المقدسة والتي جسّدها قولا وفعلا نظام صدام حسين المخلوع في العراق. وقال إن هذا الشعار "مات هو الآخر بالسكتة القبلية في صباح يوم الثاني من أغسطس من العام 1990 ليترك العالم العربي في حال من التخبط والتمزّق لم يسبق لها مثيل، مضيفا أن تعبير "تنوير العقل العربي" الذي تلا ذلك الزلزال كان بمنزلة صيحة أخيرة لمحاولة إضاءة الذهنية العربية من اجل فهم ما حدث ولماذا حدث والعمل على ألا يحدث مجددا ولكنه كان تعبيرا محدودا ومحاصرا وسط قوى الظلام التي أحاطت به من كل جانب. وأوضح المفكر الكويتي أن العرب باتوا يعيشون الان مرحلة جديدة فيها تعبير أساسي هو الأكثر تواضعا بين كل التعابير التي سبقته وهو "إصلاح الوضع العربي" أي انه لم يبق إلا محاولة إصلاح هذا البيت العربي المتداعي وترميمه والعودة للسكن فيه من جديد. وأعرب عن أمله في أن يؤدى الإصلاح المنشود سواء جاء من الخارج بدعوة من الولايات المتحدة أو من الداخل بواسطة الأنظمة الحريصة على مصالحها إلى تحقيق الحد الأدنى الذي يحمله في طيّاته والذي يعني أن العالم العربي سيصبح على الأقل مكانا آمنا للعيش وألاّ يتحوّل إلى ارض مطاردة تدفع مواطنيه في موجات الهجرات المروّعة إلى الخارج التي تقودهم دائما إلى حافة الموت. كما دعا الدكتور العسكري في تصريح خاص لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) إلى ضرورة إعادة بحث ودراسة وتوظيف علاقة الدين بالدولة الحديثة لصياغة أي مشروع إصلاحي جديد للعالم العربي والإسلامي. وقال إن كل الشعوب والأمم عبر التاريخ القديم والحديث واجهت هذه الإشكالية من خلال الحركات الفكرية والإصلاحية التي أدت إلى بناء الحضارة الإنسانية السائدة حاليا في العالم. واعتبر قيام دولة دينية بالمعنى التقليدي كالتي سقطت في أوروبا بعد القرون الوسطى أصبحت عملية مستحيلة في هذا العصر العالمي، لكنه شدّد في الوقت نفسه على أن العرب والمسلمين لا يستطيعون في أي مشروع إصلاحي حديث تجاوز الفكر الديني الإسلامي كعقيدة وليس كتشريع يومي، مطالبا المفكرين العرب والمسلمين بضرورة البحث عن طريق لا يلغي الدين كعقيدة وفي نفس الوقت لا يجعل العالم العربي والإسلامي في موقف تصادمي مع التطور الحضاري العالمي. كما حذر من أن العرب والمسلمين قد يصبحون مهدّدين بالانقراض والتخلّف عن ركب التاريخ وربما بالخروج عن الخريطة الجغرافية والحضارية الإنسانية في العالم إذا لم يتمكّنوا من حلّ هذه الإشكالية التاريخية والفكرية والحضارية الصعبة والمعقدة. وقال "إن المطلوب الآن ولاسيما من المفكرين العرب والمسلمين هو إيجاد صيغة لمشروع إصلاحي لا يتجاوز أو يلغي الدين، إنما يحترم الدولة الحديثة ومؤسساتها مقابل احترام هذه الدولة أيضا للدين وعدم الاصطدام معه". ودعا الدكتور العسكري إلى ضرورة الابتعاد في عملية إعادة البحث والدرس للفكر الإسلامي عن الخلافات الفقهية والعمل على استنباط أحكام فقهية تتماشى مع العصر الحديث مثلما قام به علماء الإسلام السابقين في العصور الماضية، مقترحا في هذا السياق إقامة مثل هذا المشروع الإصلاحي العربي والإسلامي على أساس فصل الدين عن السياسة اليومية في إدارة الدولة وكذلك في التعامل مع العالم الخارجي في ظل ثورة المعلومات والشبكة السريعة للاتصالات التي أصبحت تشكل في بعض مواقعها خطرا حتى على الدول الكبرى القوية. وأضاف أنه لا بد لأي مشروع إصلاحي عربي أن يقرّ بوجود الدولة القطرية في العالم العربي ليكون الانطلاق منها نحو بناء أي هيكل مشترك يقوم على المصالح الاقتصادية قبل كل شيء وليس على الشعر والخطابة والمظاهرات لأن المصالح هي التي تبني العلاقات بين الشعوب، ومن شأن إعادة بحث ودراسة وتوظيف الفكر الإسلامي كتشريع يومي وليس كعقيدة أن يجنّب العرب والمسلمين الاصطدام بين المتطرفين والمعتدلين. وأكد ضرورة أن يأخذ العرب والمسلمون من هذه الحضارة أهم ما فيها وتوظيفه لخدمة مجتمعاتهم وطرح ما تزخر به هذه المجتمعات من إضافات للحضارة الإنسانية وهو ما حصل في بداية الإسلام. ويذكر أن هذه الندوة الفكرية العربية قد شهدت مشاركة وزير الثقافة التونسي الدكتور عبد الباقي الهرماسي الذي ألقى محاضرة افتتاحية وكذلك عدد من المفكرين التونسيين والعرب من بينهم المفكر اللبناني الدكتور علي حرب والمفكران المصريان الدكتور محمد حافظ دياب والدكتور جابر عصفور. أعلى الصفحة |
---|